الأيام الأخيرة في حياة الأمير عثمان دقنه
ولد الأمير عثمان دقنه في سواكن حوالي عام 1843م ووالده أبو بكر دقنه من أسرة الدقناب الشهيرة وأمه نفيسة (ست البنات) من البشارياب وهم بطن من بطون قبيلة الهدندوة العريضة ( ).
شب عثمان وسط أسرة تعمل بالتجارة فقد كان أخواه عمر وعلي وابن عمه أحمد يعملون بالتجارة بين سواكن وجده. كانت تجارتهم رائجة واتهموا بالاتجار بالرقيق تحت ستار التجارة الحرة ، و في عام 1877م قبض على علي دقنه بالقرب من مرسى الشيخ (برغوث) وبحوزته عدد من الرقيق المصدر إلى جده. وكان من جراء ذلك أن حكم بالسجن على عمر وعثمان وعلي ، ثم صفيت أعمالهم بجده وصودرت ممتلكاتهم وعاد الأخوة الثلاثة إلى سواكن بعد ضياع ما جمعوه عبر السنين .
ترك هذا الأمر أثرا عظيماً في نفس عثمان دقنه الأمر الذي حدا به لتأييد الثورة العرابية التي اندلعت في مصر وحاول تأليب الناس في سواكن على السلطة التركية القائمة ، غير أن أهل الرأي في سواكن رأوا أن يبعدوا الفتن من مدينتهم التي تعتمد على التجارة التي ترعاها الإدارة القائمة فتكون مجلس من أعيان المدينة ضم :
1)الشناوي بك سر تجار المدينة
2)الخليفة محمد قول المشهور (بالخليفة الصافي)
3)الخليفة محمد نور
قرر المجلس طرد عثمان دقنه من مدينة سواكن .على أثر هذا القرار غادر عثمان دقنه سواكن إلى بربر حيث استقر هناك وعمل (سقاء) ( ) واستمر في عمله إلى أن استقر وتزوج هناك، وبمساعدة أصهاره اسـتطاع عثمان أن ينتقل من مهنة السقاء إلى التجارة.
و في عام 1882م رجع إلى سواكن في مهمة تجارية حين حاول أن يقيم تنظيم لمقاومة السلطات القائمة إلا أنه فشل في ذلك الأمر.
تنامت أنباء المهدي وانتصاراته فتوجه عثمان إلى كردفان وبايع المهدي على رضى وتم تعيينه أميراً على شرق السودان.
أسر الأمير عثمان دقنه: بعد معركة كرري الفاصلة بين المستعمر والأنصار تراجع الخليفة عبدالله غرباً لمواصلة الكفاح ضد المستعمر الباغي وهناك لحق به الأمير عثمان دقنه بمن معه من رجال وانضم إليه أحمد فضيل بعد انسحابه من القضارف0 بعد اكتمال تجمع الأنصار زحف بهم الخليفة إلى أم درمان0
انتظر الأمير عثمان دقنه مع الشيخ محمد الطاهر المجذوب الذي لدغته حيه بينما واصل جيش الخليفة زحفه إلى أم درمان0 ثم وصلت الأنباء باستشهاد الخليفة عبدالله فأمر الأمير جنده من أهل الشرق بركوب النيل من الدويم إلى رفاعه ومنها إلى حمري بطريق البطانه، أما هو فقد تنكر ومكث برفاعه مع صديقه الطيب السواكني لمدة اسبوع ومنها إلى حمري ومنها إلى (اودي) مصطحباً معه أحمد ابوطاهر الأرتيقي (بأتمن) ومن هناك انضم إليهم أحمد إبراهيم من الهدندوة (هاكولاب) حيث وصلوا إلى (الجميلاب) وبعث إلى الأرتيقه في (توكر) ليعدوا له العدة لتهريبه إلى الحجاز0أجرى الأرتيقه اتصالاتهم وأعدوا ثلاث سنابيك لنقل الأمير واحد في ترنكتات والثاني في هيدوب والثالث في شمال العقيق0
وصل خبر وجود الأمير عثمان دقنه في الشرق إلى محمد بك أحمد مأمور سواكن عن طريق (الخليفة الصادق الأرتيقي) ومن ثم قدم محمد بك أحمد بمعية الضابط برجس في قوة من الشرطة لاعتقال الأمير عثمان دقنه 0اسر الأمير ونقل مثقلا بالحديد إلى سواكن في عام 1900م0 وعندما رأت بعض نساء جنود الحكومة الأمير عثمان دقنه مثقلا بالحديد لم يتمالكن أنفسـهن من الفرحة فأطلقن الزغاريد ابتهاجا بأسره ، إلا أن هذا الأمر اسـتفز الأرتيقه فما كان من شنقر عيسى وهو من بيت الهنسيلاب إلا وأن أسرع إلى أن وصل إلى حيث مخزن جيلاني بك أرتيقه في (حي الشاطا) و كسر بابه وأخرج (نحاس) الأرتيقه وضرب عليه ضربات الحرب ، فما أن دوت أصوات ضربات النحاس في أرجاء سواكن حتى هب الأرتيقه من كل صوب ملبين النداء دفاعاعن أبنهم الأمير عثمان دقنه ، وكاد الأمر أن يخرج من سيطرة الحكومة التي سارعت بتهدئة جموع الأرتيقه التي تجمعت هناك وبعد تدخل العقلاء من كبار رجال القبيلة استمع المجتمعين لحديث مندوب الحكومة الذي وعدهم باحترام مكانة الأمير وانه سوف يلقى محاكمة عادلة ، وتفرقت الجموع في حسرة وهي تري أبنها الأميرمكبلا بالأغلال في أيدي أعداءه وكان ذلك اليوم يوما مشهودا في مدينة سواكن( )0
بعد هذا الحادث سارعت السلطات بنقل الأمير إلى رشيد ومنها إلى دمياط وفي ديسمبر 1908 نقل الأمير إلى سجن وادي حلفا وهناك تم تقسيم السجناء السياسيين تبعا لأهميتهم السياسية في ثلاث مجموعات لتضم المجموعة الأولى كبار القادة عثمان دقنه وعلى عبدالكريم والذين وضعـوا تحـت الحبس الخاص في القلعة رقم(4) ولم يكن مسموحاً لهم بمغادرة الزنازين إلا مرة واحد ظهراً أما المجموعة الثانية فقد حرم عليها الاختلاط بالأهالي، والمجمـوعة الثالثة كانت مجمـوعة السجناء ذات العقوبة المخففة والتي وضعت في غشلاق السجانة وسمح لهم بحرية الحركة0
بحلول عام 1917 لم يبق في السجن غير ثلاثة سجناء مع عثمان دقنه. وبعد فترة لم يبقى في السجن غير عثمان دقنه وعلى عبدالكريم إسماعيل ( )لوحدهما
في عام 1923م التمس عثمان دقنه من السلطات السماح له بأداء فريضة الحج فرفض طلب دقنه بطريقة تعسفية، وتسرب الخبر إلى حزب الأحرار البريطاني الذي شنت صحفه حملة عنيفة ضد الحكومة، وتحت وطأة حملة حزب الأحرار سمحت الحكومة البريطانية لعثمان دقنه بالحج في العام 1924م.
وصل الأمير عثمان دقنه سواكن وهو في طريقه إلى الحج فاستقبله الأرتيقه والسواكنيه بحفاوة بالـغة ورتبوا له لـقاء جامع للترحيب به ومن ثم تحلقوا في حلقة كبيره حول الأمير وهم يتلون ايات من القرآن الكريم ، وأغرورقت الدموع في عيني الأمير وهو يرى تلك الجموع الحبيبه في بلده الحبيب سـواكن وقد مرت به فترات ظن فيها أن عينيه لن تكتحل مرة أخرى برؤيتهم ، جال الأمير ببصره حول الجموع المتحلقة حوله فلم يري صديق صباه الوفي وزميل دراسته في خلوة الأبشر (بقباب) الشيخ عمر أرتيقه وهو من الكرباب، ولم يتمالك نفسه فخنقته العبرة وترك لدموعه العنان عندما علم بوفاته، وكيف لا يترك لدموعه العنان تبكي صديق عمره الذي بادله الوفاء في زمن خشي فيه الكثيرون من نطق أسمه نهايك عن الدفاع عنه0
وعند عودته من الأراضي المقدسة خصص له منزل صغير جوار مركز الشرطة حيث قضي بقية حياته صائما نهاره يفطر على اللبن والتمر وقائماً ليله يستريح من القيام بتلاوة القرآن ليعاود قيامه0 وفي ليلة السابع عشر من ديسمبر1927 توفي عثمان دقنه في هدوء وبعد جنازة صامتة دفن في مقابر السيد إبراهيم الميرغني بوادي حلفا0
وعلى أثر تهجير مواطني وادي حلفا كان لابد من التفكير في البطل عثمان دقنه يقول السيد حسن دفع الله في مؤلف القيم (THE NUBIAN EXODUS) " كنت قد زرت قبر عثمان دقنه في اليوم التالي لوصولي حلفا في أغسطس 1958م وكتبت إلى مدير المديرية الشمالية مقترحاً نقل رفات هذا المجاهد إلى مسقط رأسه في شرق السودان حيث ذاعت بطولاته ومجاهداته ولكن اقتراحي لم يلق سوى الإهمال 0 ثم عاودت المحاولة باقتراح للجنة التوطين في يونيو 1963م، ولأسباب مجهولة أهملت اللجنة الرد على اقتراحي0 وفي إحدى زيارات د0طه بعشر لحلفا اتفقنا على التصدي لهذا الأمر ونقل رفات عثمان دقنه على نفقتنا الخاصة الشخصية ، غير أن سير الأحداث كان في صالح الاقتراح حين جاءت مبادرة من الأمام الهادي المهدي والسيد الصادق المهدي تدعمها حملة صحفية وحماس من مجلس بلدي مدينة بورتسـودان مما جعل الجهات الرسمية أمام الأمر الواقع0
وبعد أن فوض اللواء عروة وزير الداخلية مجلس بلدية بورتسودان للمضي في إجراءات نقل الرفات واعادة دفنه عند مدخل مدينة سواكن ، شرعنا في الترتيبات فقمنا بفتح القبر في الساعة الرابعة من مساء 30 أغسطس بحضور من تبقى من سكان المنطقة 0 ولدهشتنا وجدنا الكفن بحالة جيدة ، كان الكفن الأبيض سليماً كما هو إلا أن لونه يميل إلى الصفرة قليلاً ، وكشفنا عن وجهه للتعرف عليه فرأينا وجهه واضح الملامح كما لو كان حياً ، وكان شعر رأسه وحواجبه على هيئتهما ، أما لحيته فقد كانت كما هي مخضبة بالحناء0(بعد مرور أكثر من أربعين عام على وفاته) ثم أعدنا تكفينه ووضعناه في تابوت خاص غطيناه بعلم السودان ، وفي احتفال مهيب حمل الرفات إلى محطة القطار حيث تحرك به القطار في صبيحة اليوم التالي إلى بورتسودان ، وعند وصول الجثمان إلى عطبره تلقينا شارة رسمية بان مكان إعادة دفنه ستكون في أركويت وليس سواكن لأسباب تاريخية وجغرافية وسياحية ارتبطت بشخص الأمير عثمان دقنه حسـب ما برر بيان وزير الداخلية0 ولذلك فان الأمر يستوجب إنزاله في محطة (صمت) المقابلة لأركويت0
وفي عطبره كان وفد من رجالات السودان لتحية رفات الأمير تبارى فيه الخطباء والشعراء ، فرثاه السيد محمد أحمد محجوب :
أمير الشــرق عــاد الي عرينه وعـادت بهجـة الفتح المبين
لقية أعظــم وعظيـم قـــوم اثارت كامـــن الحقد الدفين
لقد هــاب العــداة له سلامـا وقلبا قــد تسلـــح باليقين
وبعــد المـوت هابته رجــال دهاها الزعر في الجسد الدفين
حصــون البقعـة الثكلـي أفاقت دوى المجد في تلك الحصون
وعــاد الي الحياة اخـو طعـان تلقــي الموت مرفوع الجبين
فهـاب المــوت طلعته وخارت فرائض كــل رعـديد مهين
عــداة الذين اثخنتهم جــراحا وجـاز الصف بالسيف المتين
أبا الأشبال مجــدك فخر شعب تدارســه الكهول مع البنين
صحائف لا تلين علـــي جبان خاض المــوت يهزأ بالقرين
تقدمــت الصفوف وأنت ماضي تطاعــن بالشمـال وباليمين
وتردي كـل ذي عــنت دخيل وتلـوي بالفيالق والحصـون
وقــدت الجيش من نصر لنصر ورويت الرمــاح من الوتين
وحــولك عصبة كانت سياجـا يرد الشـرك عن وطن ودين
كمــاة فـي الصلاة لهم خشوع وعند الحـرب أشـبه بالاتون
يرومـون الشهـادة او حــياة علي الإيمان والخلق الرصين
أمير الشـرق وعـدت فهل ترانا كمـا كنتم حمـــاة للعرين
أباة لا تليـن لـنا قنـــــاة تزود الشـر عن وطن ودين
فمــا فـي القطـر الا مستكين وهل تصفوا الحياة لمستكين
وبنوا الأحـرار بعـد في هوان فحـرر كـل منطلق سجين
شاهد جندك الأنصـــار هبوا يزودون النعاس عن الجفون
كماس تراهمـوا شعثا خفــافا إلي الأعـداء والحرب الزبون
غـدوا يتلفتـون وأين منــهم قيـادة باسـل فطــن أمين
فــلا عبد الحميد يقــود جيشا ويرفع راية النصــر المبين
ولا البطل النجومي المفـــدى ويطوح بالجحافـل والحصون
ولا حمدان يقهر كـــل طاغ ويسقي الخصم من كدر وطين
ولا محمد يرسلها شواظـــا ويجندل كـــل غدار خؤون
وأصحاب الإمام لهم حنـــين وأشواقــي لضاربة الطحون
فردوا صيحـــة كانت زئيرا وتراهم يهرعون إلـي المنون
تغربت سنين أسير حـــرب ولكن مـا غربت عن العيون
أنت الشمس كانت تســـري بك الأحرار فـي حلك الدجون
وتنتقل الحواضــر والبوادي وتستطـع في التهاتم والحزين
وعـدت كما بدأت نصير حق نبراســا يضئ مدي القرون
ورواؤك لم تغيره الليالـــي ولا عصفت به ســود السنين
ولو نفض غبار بعثت حــيا تصارع قــوة البغي الحصين
وفي الرابع من سبتمبر (1964م) وبحضور الحاكم العسكري لمدينة بورتسودان والسيد محمد سر الختم الميرغني وجمع من كبار رجال الدولة والمواطنين حملت رفات عثمان دقنه من محطة السكة الحديد إلى حيث دفن في قمة تل قرب فندق أركويت" ( ) وهكذا تم نقل رفاته إلى أركويت موطن شيخه وحبيبه الطاهر الطيب قمر الدين حمد محمد المجذوب0
و أسدل الستار على حياة واحد من أعظم الأبطال الذين عرفهم تاريخ السودان وأحد أشجع مقاتلي القرن التاسع عشر القائد المحارب الذي هزم جيش الإمبراطورية البريطانية في سنكات و توكر والتيب وهندوب وتأماي وخور شمبات صاحب البطولات الذي جعل تشرشل يخلع عليه حلل الإطراء( )